[img]
[/img]
ممدوح طه
التاريخ: 12 أغسطس 2011
ممدوح طه
المراقب للمشهد العربي الإسلامي، لا بد أن يلحظ الكثير من عناصرالائتلاف والقليل من عناصر الاختلاف، بين مكونات الوطن العربي والأمة الإسلامية، بما يؤكد أن الجوامع المشتركة بين شعوبنا أكبر وأكثر من أية قواسم غير مشتركة، وبما يحدد حقيقتين لا يشكك في وجودهما ما يظهر على السطح من اختلافات وخلافات وتباينات وانقسامات، بعضها مبرر وبعضها مقرر..
الأولى، أن ما يجمع بين أجزاء الوطن العربي، وما يربط بين أقطار هذه الأمة الإسلامية، أكثر بكثير مما يفرقها، ذلك أن حقيقة ما جمع بين الشعب العربي الواحد من معارك مشتركة ضد الغزاة والمستعمرين القدامى في الماضي من أجل الحرية، وما يوحده في مجابهة المعارك ضد الغزاة والمستعمرين الجدد من أجل استكمال الحرية وبناء التقدم واستعادة الوحدة في الحاضر، يتجاوز بمشاعره وتفاعله وتضامنه ما تفرقه الحدود السياسية الفاصلة التي رسمها المستعمرون.
والثانية أن هذه الأمة الإسلامية الجامعة، على اختلاف قومياتها ولغاتها ومذاهبها ونظمها وسياساتها، وعلى تعدد هوياتها الدينية، تبقى رغم كل ذلك أمة واحدة، تجمعها جغرافيا واحدة متصلة، وتاريخ حضاري مشترك يشير إلى طريق مستقبلها، وما زالت شعوبها تشدها إلى بعضها رسالة الإسلام التوحيدية الموحدة بين الأديان والأعراق والأوطان، حتى وإن بدت على خريطتها الجغرافية حدود تفصل، ذلك أن لها حضارة تجمع، ورسالات سماوية توحد، وتحديات مشتركة تربط، وأهدافاً مشتركة تصل.
فالأمة الإسلامية مع كل هذا التنوع والتعدد والاختلاف اللغوي والقومي والمذهبي، لا تزال منذ ألف وخمسمائة عام وإلى اليوم، متوحدة حول عبادة إله واحد، ويبلور عقيدتها التوحيدية قرآن واحد، ويرسم معالم شريعتها الجامعة كتاب واحد، ويصلي مئات ملايين المسلمين في قارات العالم الست صلاة واحدة، ويتجهون جميعاً نحو قبلة واحدة، هي المسجد الحرام الذي يجتمعون في رحابه للحج في كل عام، في أكبر مؤتمر شعبي عالمي إسلامي، كما يصوم كل المسلمين في رمضان بشعائر واحدة.
والوطن العربي مع كل هذا التنوع والتعدد والاختلاف الديني والوطني والمذهبي، لا يزال منذ عهد سيدنا إسماعيل، ومنذ أصبح للعرب وجود وإلى اليوم، يجمعه كونه منبع أعرق الحضارات الإنسانية على ضفاف النيل وفي أرض الرافدين وفي بلاد الشام وفي اليمن جنوب الجزيرة العربية، التي علمت العالم حروف الكتابة وأبجديات القراءة، وعلوم الطب والفلك والهندسة، وفنون الرسم والعمارة، وكان ما يوحده كونه مهبط الرسالات التوحيدية السماوية الثلاث؛ اليهودية في سيناء المصرية، والمسيحية في بيت لحم الفلسطينية، والإسلام في مكة المكرمة في قلب الجزيرة العربية.
وما يجمع الوطن العربي بالأمة الإسلامية، هو ذلك الجامع المشترك الأعظم بين العروبة والإسلام، ففضلاً عن نزول الرسالة الإسلامية لهداية البشرية كلها في قرآن كريم بلسان عربي مبين، على نبي عربي أمين، كما خص الله، جل في علاه، العرب المسلمين بحمل هذه الرسالة السماوية المصدقة برسالات الله، والتبشير بها للعالمين، بما يجسد حقيقة الأخوة الإيمانية بين الأنبياء، والأخوة الدينية بين الرسالات السماوية، وخصوصية الوحدة العضوية بين العروبة والإسلام.. أتحدث عن عروبة محمد، لا عن عروبة أبي جهل.
وبالرغم من حقيقة وضرورة الوحدة بين العرب على اختلاف انتماءاتهم الدينية، مسيحيين ومسلمين، ومن حقيقة وضرورة الوحدة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، شيعة وسنيين وصوفيين وسلفيين وغيرهم، وعلى تنوع أعراقهم، عرباً وفرساً وأكراداً وتركماناً وآخرين، شهدت القرون الأخيرة، ومع نهضة الحضارة الإسلامية وانفتاحها بازدهار حركة الترجمة على الثقافات الأوروبية، ومع اتصال المسلمين بالغرب عبر الفتوحات الإسلامية الهادية للغرب، وعبر الحملات الصليبية والاستعمارية الغازية للشرق، حدث نوع من التفاعل الثقافي والحضار ي من جانب، ونوع من الصراع الفكري بين الحضارتين من جانب آخر.
وفي حين كانت أوروبا في العصور الوسطى تعيش عصر الظلام، كان المسلمون يعيشون في القرون الوسطى أزهى عصور الحضارة والقوة، وبينما انتقلت علوم وفنون وثقافة وعدالة الحضارة الإسلامية إلى القارة الأوروبية، عبر الفتوحات الإسلامية التي بلغت أوجها في عصر الدولة العباسية، انتقلت إلى الأمة الإسلامية أفكار وفلسفات ثقافية وسياسية مادية وعلمانية وليبرالية وديمقراطية، بذرت بذور الازدواجية الفكرية والحزبية السياسية، كما انتقلت إليها أيضاً التجارب القومية الأوروبية.
وإقامة الوحدة الإيطالية والوحدة الألمانية بالقوة العسكرية، بما أيقظ الهويات القومية لدى الشعوب الإسلامية وتوظيفها لإشعال الروح الشعوبية لتفكيك الدولة العثمانية، آخر أشكال الوحدة الإسلامية، وبداية العهود الاستعمارية وتقسيم وحدة الوطن العربي والأمة الإسلامية.
وهنا ثارت في الطريق إلى المستقبل مسألة الهوية مجدداً، سواء بمنظورها الوطني الأصغر، أو بمنظورها القومي الأكبر، أو بمنظورها الديني الأوسع، ونشأ تناقض مفتعل ما بين الانتماء الوطني والانتماء القومي تارة، وبين الانتماء العربي والانتماء الإسلامي، في حين أن روابط الوحدة في المستقبل والمصير بين شعوب هذه الأمة الواحدة، لا تجعل هناك تناقضاً بين الوطنية المصرية أو غيرها مثلاً وبين القومية العربية، ولا بين الهوية الثقافية العربية والحضارة الإسلامية. إنها هوية واحدة ذات دوائر ثلاث متداخلة ومتكاملة ومتصلة، مصرية الوطن، عربية الثقافة، إسلامية الحضارة.
تلك مجرد إشارات عابرة للخلفية التاريخية والثقافية للمشهد العربي والإسلامي الراهن، ومجرد متابعة عابرة لجذور الصراع الفكري والسياسي بين التيارات والأحزاب السياسية، التي أضافت لها اختلالات وتناقضات الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الراهن، وحراك التغيير الشعبي العربي والإسلامي الجاري، عناصر اشتعال إضافية، وصلت بحدة الاستقطاب الفكري والسياسي إلى ما يشبه المعركة الفكرية بأهداف سياسية، داخل المجتمعات العربية والإسلامية..
لكن الحديث عن معارك المشهد الراهن، رغم الخلاف والعراك، بما يؤكد أن ما يجمع أوطاننا وأمتنا أكثر مما يفرقنا، لم يبدأ بعد، فما زال الحديث مستمراً عن الجوامع المشتركة، وليس عن القواسم المشتركة في مجتمعاتنا.
mamdoh77t@hotmail.com