[img]
[/img]
ممدوح طه
التاريخ: 19 أغسطس 2011
ممدوح طه
بينما تتطلع الشعوب العربية إلى إعادة صياغة مجتمعاتها، على أسس جديدة من تأكيد الحقوق والحريات وتحديد المسؤوليات والواجبات، خصوصاً بعد الحراك الثوري الشعبي الوطني والتغيير الديمقراطي في تونس ومصر في جانب، وبعد الانتفاضات الشعبية متعددة الألوان في بلدان عربية أخرى، في جانب آخر..
تتوالى الإشارات بأن هذه الإرادة الشعبية العربية المشروعة في التغيير، بشرط سلميتها، نحو مزيد من الحرية والتنمية والعدالة والوحدة، تتوازى معها إرادة غربية مضادة غير شعبية وغير مشروعة، تحاول تغيير الهوية من التعريب إلى التغريب، وفرض التبعية بدلاً من الحرية، والتخلف بدل التنمية.
والظلم الاقتصادي والاجتماعي بدلاً من العدالة، والانقسام والفوضى بدلاً من الوحدة الوطنية والقومية، سعياً لإعادة إخضاع المنطقة العربية والإسلامية لسيطرتها. وفي الطريق إلى المستقبل، يثور الجدال، خصوصاً في تونس ومصر، من جديد في أوساط النخب الثقافية والسياسية، حول مسألة الهوية الوطنية وصياغة الدستور، ونشأ بهذا الجدال تناقض مفتعل بين الانتماء الوطني والانتماء القومي تارة، وبين الانتماء العربي والانتماء الإسلامي تارة أخرى، في حين أن روابط التاريخ والجغرافيا.
وروابط الآلام والآمال المشتركة، وروابط الوحدة في المستقبل والمصير بين شعوب هذه الأمة الواحدة، لا تجعل هناك تناقضاً بين الوطنية والقومية العربية، ولا بين الهوية الثقافية العربية والحضارة الإسلامية. فالوطن هو الأرض الحاضنة لكل المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية والثقافية والسياسية، والوطنية القائمة على حقوق المواطنة هي الحل لمشكلة التمايز بين المواطنين.. والقومية هي الحل لمشكلة الأقليات الدينية، وهي الرابطة الحاضنة للمسلم والمسيحي وللسني والشيعي.
. والانتماء للأمة الإسلامية هو الحل لمشكلة الأقليات القومية، وهو الضامن لإقامة «الدولة العادلة» الحامية لحقوق الأقليات الدينية، وللمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بلا تمييز، على قاعدة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».
هذا الجدال النخبوي المعزول عن التيار الشعبي العربي العام، عبر عن نفسه بصراع فكري واستقطاب سياسي في المجتمعات العربية، حول ثنائيات متضادة جلها مفتعلة حول العلاقة بين الدين والدولة وشكل نظام الحكم، وهي امتداد للصراع بين التيارات والأحزاب القديمة، التي أضافت لها اختلالات وتناقضات الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وحراك التغيير الشعبي العربي، عناصر اشتعال إضافية وصلت بحدة الاستقطاب الفكري والسياسي إلى ما يشبه المعركة الأهلية الفكرية!
لكن معارك هذه التيارات بفوضى المصطلحات حول علاقة الدين بالدولة، يمكن لها بالحوار الوطني الموضوعي الجاد، أن تلتقي على رؤى توافقية مشتركة، ذلك أن ما يجمع شعوب أوطاننا وأمتنا من الجوامع المشتركة أكثر مما يفرقها، وهذا ما ثبت بالفعل في الحوار النموذج الذي جرى في مصر في رحاب الأزهر الشريف، بين مختلف الأطياف الفكرية المصرية الإسلامية والمسيحية والعلمانية والليبرالية واليسارية والقومية، والخروج في النهاية بـ«وثيقة الأزهر» حول صيغة «الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة».
وحتى مع اختلاف هذه التيارات في صراعها على السلطة وحول الخيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تبقى ثلاث حقائق مهمة؛ الأولى، أن أي مجتمع عربي أو إسلامي محكوم بالتوافق بالطبيعة وبالضرورة معاً.
والثانية، هي أنه لا يمكن لأي حزب أو تيار بمفرده حكم مجتمع متنوع بهذه الصورة وبهذا الحجم. والثالثة، أن ما يبدو خلافاً حاداً بين هذه التيارات، في الواقع فيه من عناصر الائتلاف أكثر من عوامل الاختلاف، خصوصاً إذا تم نزع تلك المصطلحات المثيرة للجدل، مثل مصطلح «الدولة الدينية» المستورد من سياق عصور الظلام الأوروبية، وليس من عصور الحضارة الإسلامية.
أو مصطلح «الدولة المدنية» الذي لا محتوى فكري ولا قانوني له، وهنا يمكننا الحديث عن دولة عادلة لا دولة ظالمة، وعن دولة ديمقراطية لا دولة دكتاتورية، وعن سلطة مدنية لا دولة مدنية، وبالتالي عن دولة إسلامية ذات سلطة مدنية، خصوصاً أن مصطلح «الدولة الإسلامية» ليس مرادفاً بأي حال لمصطلح «الدولة الدينية»، والدولة الإسلامية عبر التاريخ كانت ذات طبيعة مدنية، غير عسكرية ولا كهنوتية.
ونشأ عن ذلك الصراع القديم المتجدد، هذا العراك الجديد المتعدد الذي نشهده حالياً على وقع الحراك الثوري الشعبي في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وهذا التناقض المفتعل بين الدين والعلم، أو بين الدين والسياسة، أو بين الدين والدولة، أو حتى بين الدين والحياة. بينما جوهر الرسالات الدينية في الحقيقة لا يتصادم بطبيعته مع حقائق الحياة.
ولا مع إرادة الشعوب في الحق والعدل والحرية، بل «إن رسالات السماء كلها فى جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته»، كما أوضح ميثاق ثورة 23 يوليو مؤكداً «إن حرية العقيدة الدينية يجب أن تكون لها قداستها فى حياتنا الجديدة الحرة». بل إن أهم ضمانات العمل الوطني والثوري، كما أكدها جمال عبد الناصر قائد ثورة يوليو المصرية في تقديمه للميثاق الوطني.
هو «إيمان لا يتزعزع بالله وبرسله، ورسالاته القدسية التي بعثها بالحق والهدى إلى الإنسان في كل زمان ومكان»، ما يدل على ألا تناقض بين الثورية والتدين. إن الطريق إلى المستقبل يتسع للجميع، ويتطلب مشاركة الجميع في بناء الدولة العادلة القوية، التي تترجم الإرادة الشعبية وتفرض سيادة القانون على جميع المواطنين، بعدالة ومساواة ودون تمييز.
وذلك لا يتم إلا بالحوار الديمقراطي، وبالتوازن وبالواقعية في الطرح والاحترام المتبادل للاجتهادات المختلفة، وصولاً إلى «ميثاق وطني جديد» برؤية توافقية مشتركة.
mamdoh77t@hotmail.com